فصل: فصل نفيس في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل نفيس في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة:

لحجة الإسلام أبى حامد الغزالى:
قال عليه سحائب الرحمة والرضوان:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال الإمام الفاضل أبو حامد محمد بن محمد الغزالي رحمة الله عليه:
أحمد الله تعالى استسلامًا لعزته، واستتمامًا لنعمته، واستغنامًا لتوفيقه، ومعونته، وطاعته، واستعصامًا من خذلانه، ومعصيته، واستدرارًا لسوابغ نعمته.
وأصلي على محمد عبده ورسوله، وخير خليقته؛ انقيادًا لنبوته، واستجلابًا لشفاعته، وقضاء لحق رسالته، واعتصامًا بيمن سريرته، ونقيبته. وعلى آله، وأصحابه، وعترته.

.الفصل الأول: الشرع والبحث عن الحق:

أما بعد... فإني رأيتك أيها الأخ المشفق، والصديق المتعصب، موغر الصدر، منقسم الفكر؛ لما قرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة، على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملات الدين وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين، والمشايخ المتكلمين. وأن العدول عن مذهب الأشعري، ولو في قيد شبر كفر. ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر.
فهون أيها الأخ المشفق المتعصب على نفسك، ولا تضق به صدرك، وفُلَّ من غَرْبِك قليلًا، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلًا، واستحقر من لا يحسد ولا يقذف، واستصغر من بالكفر أو الضلال لا يعرف.
فأي داع يقصد داعية إلى الحق أكمل وأعقل من سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؟ وقد قالوا: إنه مجنون من المجانين!! وأي كلام أجل وأصدق من كلام رب العالمين؟ وقد قالوا إنه أساطير الأولين!! وإياك أن تشتغل بخصامهم، وتطمع في إفحامهم، فتطمع في غير مطمع، وتصوت في مسمع.
أما سمعت ما قيل:
كل العداوات قد ترجى سلامتها ** إلا عداوة من عاداك من حسد

ولو كان فيه مطمع لأحد من الناس، لما تلي على أجلهم رتبة، آيات اليأس.
أو ما سمعت قوله تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}. وقوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}. وقوله تعالى: {ولو نزلنا عليك كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين}. وقوله تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلًا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}.
واعلم أن حقيقة الكفر والإيمان وحدَّهما، والحق والضلال وسرهما، لا ينجلي للقلوب المدنسة بطلب الجاه والمال وحبهما. بل إنما ينكشف ذلك لقلوب، طهرت من وسخ أوضار الدنيا، أولًا.
ثم صقلت بالرياضة الكاملة، ثانيًا.
ثم نورت بالذكر الصافي، ثالثًا.
ثم غذيت بالفكر الصائب، رابعًا.
ثم زينت بملازمة حدود الشرع، خامسًا.
حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة، وصارت كأنها مرآة مجلوة. وصار مصباح الإيمان في زجاجة قلبه، مشرق الأنوار، يكاد زيته يضيء ولم لم تمسسه نار.
وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم:
إلههم هواهم!!!
ومعبودهم سلاطينهم!!!
وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم!!!
وشريعتهم رعونتهم!!!
وإرادتهم جاههم وشهواتهم!!!
وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم!!!
وذكرهم وساوسهم!!!
وكنزهم سواسهم!!!
وفكرهم استنباط الحيل، لما تقتضيه حشمتهم!!!
فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر، من ضياء الإيمان؟ أبإلهام إلهي؟ ولم يفرغوا القلوب من كدورات الدنيا لقبولها. أم بكمال علمي؟ وإنما بضاعتهم في العلم، مسألة النجاسة، وماء الزعفران وأمثالهما.
هيهات!! هيهات!! هذا المطلب أنفس وأعز من أن يدرك بالمنى، أو ينال بالهوينا. فاشتغل أنت بشأنك، ولا تضيع فيهم بقية زمانك.
{فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى}.

.الفصل الثاني: التكفير بسبب الاختلاف المذهبي ناتج عن التقليد ولا أساس له:

فأما أنت إن أردت أن تنتزع هذه الحسكة من صدرك، وصدر من هو في حالك، ممن لا تحركه غواية الحسود، ولا تقيده عماية التقليد، بل تعطشه إلى الاستبصار لحزازة إشكال أثارها فكر، وهيجها نظر. فخاطب نفسك وصاحبك، وطالبه بحد الكفر. أي تعريفه فإن زعم أن حد الكفر: ما يخالف مذهب الأشعري، أو مذهب المعتزلي، أو مذهب الحنبلي أو غيرهم؛ فاعلم أنه غِر، بليد. قد قيده التقليد؛ فهو أعمى من العميان، فلا تضيع بإصلاحه الزمان. وناهيك حجة في إفحامه، مقابلة دعواه بدعوى خصومه؛ إذ لا يجد بين نفسه وبين سائر المقلدين المخالفين له فرقًا وفصلًا ولعل صاحبه يميل، من بين سائر المذاهب، إلى الأشعري كان مذهب الأشعري هو السائد في ذلك العصر، ويزعم أن مخالفته في كل وِرْدٍ وصدر، كفر من الكفر الجلي. فسأله من أين ثبت له أن يكون الحق وقفا عليه حتى قضى بكفر الباقلاني إذ خالفه في صفة البقاء لله تعالى وزعم أنه ليس هو وصفا لله تعالى زائدا على الذات. ولِمَ صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني؟ ولِمَ صار الحق وقفا على أحدهما دون الثاني؟ أكان ذلك لأجل السبق في الزمان فقد سبق الأشعريَّ غيرُهُ من المعتزلة فليكن الحق للسابق عليه أم لأجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فبأي ميزان ومكيال قدّر درجات الفضل حتى لاح له أن لا أفضل في الوجود من متبوعه ومقلده؟
فإن رخّص للباقلاني في مخالفته فلِمَ حجر على غيره؟ وما الفرق بين الباقلاني والكرابيسي والقَلانْسي وغيرهم؟ وما مُدرِكُ التخصيص بهذه الرخصة؟ وإن زعم أن خلاف الباقلاني يرجع إلى لفظٍ لا تحقيق وراءه كما تعسًّف بتكلّفِه بعضُ المتعصبين زاعما أنهما جميعا متوافقان على دوام الوجود، والخلافُ في أن ذلك يرجع إلى الذات أو إلى وصفٍ زائد عليه، خلافٌ قريبٌ لا يوجب التشديد، فما باله يشدد القول على المعتزلي في نفيه الصفات وهو معترف بأن الله تعالى عالِم محيطٌ بجميع المعلومات، قادر على جميع الممكنات، وإنما يخالف الأشعري في أنه عالم وقادر بالذات أو بصفة زائدة؟ فما الفرق بين الخلافين؟ وأي مطلب أجلّث وأخطر من صفات الحق سبحانه وتعالى في النظر في نفيهما وإثباتهما؟
فإن قال إنما أكفِّرُ المعتزلي لأنه يزعم أن الذات الواحدة تصدر منها فائدة العلم والقدرة والحياة، وهذه صفاتٌ مختلفة بالحد والحقيقة، والحقائقُ المختلفةُ تستحيل أن توصف بالاتحاد أو تقومَ مقامَها الذاتُ الواحدةُ، فما بالُهُ لا يستبعد من الأشعري قوله: إن الكلام صفة زائدة قائمة بذات الله تعالى ومع كونه واحدًا هو توراةٌ وإنجيلٌ وزبور وقرآن، وهو أمر ونهي وخبر واستخبار- وهذه حقائق مختلفة. وكيف لا وحَدُّ الخبر ما يتطرق إليه التصديق والتكذيب ولا يتطرق ذلم إلى الأمر والنهي. فكيف تكون حقيقةٌ واحدة يتطرق إليها التصديق والتكذيب ولا يتطرق، فيجتمع النفي والإثبات على شيء واحد؟
فإذا تخبط في جواب هذا أو عجز عن كشف الغطاء فيه: فاعلم أنه ليس من أهل النظر وإنما هو مقلّد، وشرط المقلد أن يَسكُت ويُسكَتَ عنه، لأنه قاصر عن سلوك طريق الحِجَاج. ولو كان أهلًا له كان مستتبَعًا لا تابعا، وإمامًا لا مأمومًا. فإن خاض المقلد في المَحاجَّة فذلك منه فضولٌ والمشتغلُ به صار كضاربٍ في حديدٍ باردٍ وطالبٍ لصلاح الفاسدِ- وهل يصلح العطّارُ ما أفسدَ الدهرُ؟
ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقفًا على واحد من النظار بعينه، فهو إلى الكفر والتناقض أقرب.
أما الكفر: فلأنه نزله منزلة النبي المعصوم من الزلل الذي:
لا يثبت الإيمانُ إلا بموافقته.
ولا يلزم الكفرُ إلا بمخالفته.
وأما التناقض: فهو أن كل واحد من النظار يوجب النظر، وأنك لا ترى في نظرك إلا ما رأيت، وكل ما رأيته حجة. وأي فرق بين من يقول: قلدني في مذهبي، وبين من يقول قلدني في مذهبي ودليلي جميعًا، وهل هذا إلا التناقض؟

.الفصل الثالث: التكفير يقع على من يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم:

لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر، بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين.
فاعلم: أن شرح ذلك طويل، ومدركه غامض، ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها، لتتخذ مطمح نظرك، وترعوي بسببها عن تكفير الفرق، وتطويل اللسان في أهل الإسلام، وإن اختلفت طرقهم ماداموا متمسكين بقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، صادقين بها، غير مناقضين لها.
فأقول:
الكفر: هو تكذيب الرسول، عليه الصلاة والسلام، في شيء مما جاء به.
والإيمان: تصديقه في جميع ما جاء به.
فاليهودي والنصراني: كافران؛ لتكذيبهما للرسول عليه الصلاة والسلام.
والبرهمي: كافر بالطريق الأولى؛ لأنه أنكر مع رسولنا سائر المرسلين.
والدهري: كافر بالطريق الأولى، لأنه أنكر مع رسولنا المرسل، سائر الرسل.
وهذا لأن الكفر حكم شرعي: كالرق والحرية مثلًا، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار.
ومدركه شرعي، فيدرك: إما بنص، وإما بقياس على منصوص:
وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى، والتحق بهم بالطريق الأولى:
البراهمة، والثنوية، والزنادقة، والدهرية.
وكلهم مشركون مكذبون للرسل. فكل كافر مكذب للرسل. وكل مكذب للرسل فهو كافر. فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة.

.الفصل الرابع: للوجود خمسة مراتب:

اعلم أن الذي ذكرناه، مع ظهوره، تحته غور، بل تحته كل الغور، لأن كل فرقة تكفر مخالفها، وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام.
فالحنبلي يكفر الأشعري، زاعمًا أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى، وفي الاستواء على العرش.
والأشعري يكفره زاعمًا أنه مشبه وكذب الرسول في أنه {ليس كمثله شيء}.
والأشعري يكفر المعتزلي زاعمًا أنه كذب الرسول في جواز رؤية الله تعالى. وفي إثبات العلم والقدرة، والصفات له.
والمعتزلي يكفر الأشعري، زاعمًا أن إثبات الصفات تكثير للقدماء، وتكذيب للرسول في التوحيد.
ولا ينجيك من هذه الورطة إلا أن تعرف:
حد: التكذيب والتصديق، وحقيقتهما فيه.
فينكشف لك غلو هذه الفرق، وإسرافها في تكفير بعضها بعضًا.
فأقول:
التصديق: إنما يتطرق إلى الخبر، بل إلى المخبر.
وحقيقته: الاعتراف بوجود ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجوده. إلا أن للوجود خمس مراتب، ولأجل الغفلة عنها نسبت كل فرقة مخالفها إلى التكذيب. فإن الوجود: ذاتي، وحسي، وخيالي، وعقلي، وشبهي.
فمن اعترف بوجود ما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن وجوده، بوجه من هذه الوجوه الخمسة فليس بمكذب على الإطلاق.
فلنشرح هذه الأصناف الخمسة، ولنذكر مثالها في التأويلات.
أما الوجود الذاتي: فهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحس والعقل، ولكن يأخذ الحس والعقل عنه صورة، فيسمى أخذه إدراكًا.
وهذا كوجود السموات والأرض، والحيوان، والنبات، وهو ظاهر بل هو المعروف الذي لا يعرف الأكثرون للوجود معنى سواه.
وأما الوجود الحسي: فهو ما يتمثل في القوة الباصرة مثلًا والمراد إحدى الحواس من العين، مما لا وجود له خارج العين، فيكون موجودًا في الحس، ويختص به الحاس، ولا يشاركه غيره، وذلك كالحلم الذي يشاهده النائم، بل الخيال كما يشاهده المريض المتيقظ، إذ قد تتمثل له صورة، ولا وجود لها خارج حسه، حتى يشاهده كما شاهد سائر الموجودات الخارجة عن حسه.
بل قد تتمثل للأنبياء والأولياء، في اليقظة والصحة صورة جميلة محاكية لجواهر الملائكة، ينتهي إليهم الوحي والإلهام بواسطتها، فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم، وذلك لشدة صفاء باطنهم، كما قال تعالى: {فتمثل لها بشرًا سويًا}.وكما أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل عليه السلام كثيرًا، ولكن ما رآه في صورته إلا مرتين، وكان يراه في صور مختلفة يتمثل بها.
وكما يُرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وقد قال: «من رآني في النوم، فقد رآني حقًا، فإن الشيطان لا يتمثل بي». ولا تكون رؤيته بمعنى انتقال شخصه من روضة المدينة إلى موضع النائم، بل هي على سبيل وجوده في حس النائم فقط.
وسبب ذلك وسره طويل، وقد شرحناه في بعض الكتب، فإن كنت لا تصدق، فصدق عينك، فإنك تأخذ قبسًا من نار كأنه نقطة. ثم تحركه بسرعة، حركة مستقيمة، فتراه خطًا من نار. وتحركه حركة مستديرة، فتراه دائرة من نار. والدائرة والخط مشاهدان، وهما موجودان في حسك، لا في الخارج عن حسك، لأن الموجود في الخارج، هي نقطة في كل حال.
وإنما تصير خطًا في أوقات متعاقبة، فلا يكون الخط موجودًا في حالة واحدة، وهو ثابت في مشاهدتك في حالة واحدة.
وأما الوجود الخيالي: فهو صورة هذه المحسوسات إذا غابت عن حسك، فإنك تقدر على أن تخترع في خيالك صورة فيل وفرس وإن كنت مغمضًا عينيك، حتى كأنك تشاهده، وهو موجود بكمال صورته في دماغك لا في الخارج.
وأما الوجود العقلي: فهو أن يكون للشيء: روح، وحقيقة، ومعنى. فيتلقى العقل مجرد معناه، دون أن يثبت صورته في خيال، أو حس، أو خارج، كاليد مثلًا فإن لها: صورة محسوسة ومتخيلة. ولها معنى هو حقيقتها، وهي القدرة على البطش. والقدرة على البطش هي اليد العقلية.
وللقلم صورة، ولكن حقيقته ما تنقش به العلوم، وها ما يتلقاه العقل من غير أن يكون مقرونًا بصورة قصب وخشب وغير ذلك من الصور الخيالية والحسية.
وأما الوجود الشبهي: فهو أن لا يكون نفس الشيء موجودًا، لا بصورته ولا بحقيقته. لا في الخارج، ولا في الحس، ولا في الخيال، ولا في العقل.
ولكن يكون الموجود شيئًا آخر يشبهه في خاصة من خواصه، وصفة من صفاته. وستفهم هذا إذا ذكرت له مثاله في التأويلات.
فهذه مراتب وجود الأشياء.